يمثل العودة لكتابة «روايات الجيب البوليسية» حلمًا جميلاً يشعر القارئ بالحنين إلى بدايات القراءة، يوم كنا ننتظر ونترقب سلاسل الروايات التي تربى عليها جيلنا، سواء كانت من تأليف الدكتور نبيل فاروق أو أحمد خالد توفيق، أو حتى الأدباء العالميين مثل أجاثا كريستي وشيرلوك هولمز وغيرهم. هي تجربة كاملة لها مالها وعليها ما عليها، ولكنها تجربة هامة وثرية بلا شك، تمتلك تقنيات محددة وتجعل القارئ متشوقًا لقراءتها وملاحقة تفاصيلها، جريمة وراء أخرى، وعددًا تلو آخر.
لهذا، كان الإعلان عن صدور سلسلة روايات جيب، بذلك القطع المحبب للنفس عن دار بيت الحكمة، خبرًا جميلاً. وبقي التعرف على طبيعة تلك الروايات والمغامرات الجديدة، التي يقدمها الكاتب الشاب الموهوب أحمد دويدار. فهل سيتمكن من اقتحام ذلك العالم وتقديم روايات شيقة تعتمد كل واحدة منها على جريمة مختلفة ومحاولات استكشاف جديدة؟ هذا ما سنتعرف عليه في الأيام وربما السنوات القادمة.
في ملفات سامح الصيرفي، نحن كالعادة أمام ضابط مباحث محترف، يتم تقديمه على أن حلم الالتحاق بكلية الشرطة كان من أولوياته، بل والتحقيقات والبحث عن المجرمين على وجه التحديد، حتى أصبح اسمًا شهيرًا في ذلك العالم:
«لم يكن يطمع في حمل سلاح ناري، أو مطاردة المجرمين بعصا السلطة، كما هو حال أبناء جيله وقتها، بقدر تعلقه بشخصية المحقق القوي، التي كان يراها في رجل التحقيقات الفيدرالية، من خلال مشاهدة الأفلام الأمريكية، والذي يملك الذكاء والبصيرة، والسبل العلمية أثناء بحثه عن المجرمين. وهذا ما دفعه إلى دخول كلية الشرطة، فهي السبيل الشرعي الوحيد لتحقيق طموحه، الذي دفعه نحو الاهتمام الزائد بمواد القانون وعلم النفس».
لا يكتفي الكاتب بهذا التقديم، بل يشير صراحة إلى قراءة بطل روايته لشيرلوك هولمز وتأثره به، و«هيركول بوارو» بطل تحقيقات روايات أجاثا كريستي، مما يجعل القارئ متشوقًا مرة أخرى، سواء كان من قراء هذه الروايات أو من غيرهم، إلى الجديد الذي سيقدمه دويدار في هذه الروايات والملفات والتحقيقات.
ولكن بطلنا مع ذلك ليس رجلاً مثاليًا، بل إن حياته الخاصة تعرضت للتهديد، فقد فقد زوجته وابنته الوحيدة نتيجة اهتمامه البالغ بمتابعة التحقيقات وتتبع المجرمين:
«عاش وحيدًا في منزله بعد انفصاله عن زوجته وحب عمره وأم ابنته الوحيدة، التي أبدت انزعاجها من اهتمامه الزائد بعمله أكثر من مرة، لكنه لم يتلفت لشكواها، وترك نفسه يغرق في ملفات القضايا، والسعي وراء مرتكبي الجرائم، دون أن يتوقع نهاية الطريق الذي يسلكه بفضل إهماله الشديد لأسرته، حتى وصل به الحال أن فقد كل خيوط التواصل بينهم».
في روايته الأولى «جريمة الحي اللاتيني»، يأخذنا دويدار إلى جريمة تحدث في أحد أهدأ الأحياء في الإسكندرية. ويطلعنا من خلال مساعد ضابط المباحث على عددٍ من تفاصيل الجريمة ويخفي أطرافها الأخرى. وهكذا، يأخذ القارئ معه في هذه الرحلة للبحث عن الجاني الذي يتوزع بين الأشخاص المحتملين. ولكن القصة لا تنتهي عند هذه الجريمة، بل تتفرع الخيوط وتتشابك، لنتعرف من خلالها على خلفيات أكثر للضابط سامح وأصدقائه في جهاز الشرطة، وعالمهم وما فيه من مشكلات وصراعات.
ولعل الجميل في سلسلة تلك «الملفات»، كما أسماها صاحبها، أن القارئ سيرتبط عاطفيًا وذهنيًا ببطل الروايات الثلاثة وسيكون شغوفًا بمتابعة تفاصيل ما يتعرض له من مواقف وجرائم في كل عدد/رواية والتي تليها. فإذا كان العدد الأول يتناول جريمة ريبة في ذلك الحي الهادئ «اللاتيني»، فإن الرواية/الملف الثاني يحمل اسم «جثة في حقيبة». وفيه يخوض الضابط سامح مغامرة جديدة مختلفة مع جثة مجهولة يجدونها ملقاة في خرابة داخل حقيبة سفر، مما يجعله يتبع طريقة أخرى مختلفة للوصول إلى الجاني.
وهنا تبرز مهارة الكاتب في استخدام أكثر من طريقة لتناول الشخصيات. فهو يقدم في هذه الرواية طريقة عرض بورتريهات لكل شخصية على حدة، حتى يكون القارئ شريكًا للمحقق في البحث عن الجاني. ولعل تلك طريقة متبعة لدى عدد من كتّاب هذا النوع من الروايات البوليسية، التي تجعل القارئ مشغولاً طوال القراءة باحتمالات من يكون الجاني.
في النهاية، تمثل سلسلة «ملفات سامح الصيرفي» للكاتب الشاب أحمد دويدار عودة قوية لروايات الجيب البوليسية، وتجربة جديدة في الكتابة عن هذه الجرائم بطريقة مصرية خالصة، نتمنى لها كل التوفيق.